سورة الشورى - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {حم. عسق} يُشير والله أعلم بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى الله عليه وسلم، فالحاء: أحبَبْنَاك، أو: حبيْناك، أي: أَعطيناك الملك والملكوت، والميم: ملَّكناك، والعين: عَلَّمناك ما لم تكن تعلم، أو: عيّناك للرسالة، والسين: سيّدناك، والقاف: قرّبناك. {كذلك يُوحِي إِليك} أي: كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك {وإِلى الذين مِن قبلك}، فقد خصصناهم ببعض ذلك، وأوحينا إليهم، وفي ابن عطية: عن ابن عباس: أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب، ولذلك قال تعالى: {كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك}. وقال القشيري: الحاء: مفتاح اسمه حكيم وحفيظ، والميم: مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن، والعين: مفتاح اسمه عليم وعليّ، والسين: مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب، والقاف: مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد. اهـ.
وقال ابن عطية: وإنما فصلت {حم عسق}، ولم يفعل ذلك ب {كهيعص}؛ لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها. اهـ. زاد النسفي: وأيضاً: هذه آيتان، و {كهيعص} آية واحدة. اهـ. فانظره.
{اللهُ} أي: يوحي الله {العزيزُ الحكيمُ}: فاعل {يُوحي}، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول. و {الله}: فاعل بمحذوف، كأن قائلاً قال: مَن المُوحِي؟ فقال: {الله العزيز الحكيم} أي: الغالب بقهره، الحكيم في صنعه وتدبيره.
{له ما في السماوات وما في الأرض} مُلكاً وملِكاً، {وهو العليُّ} شأنه {العظيمُ} سلطانه وبرهانه.
ثم بيّن عظمته، فقال: {يكادُ السماواتُ يتفطَّرْنَ من فوقهن}؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله: {وهو العلي العظيم}. وقيلَ: من دعائهم له ولداً، كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ} [مريم: 90] إلخ، ويؤيده: مجيء قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} [الشورى: 6]. وقرأ البصريّ وشبعة: {ينفطرن}، والأول أبلغ. ومعنى: {من فوقهن} أي: يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة، وأيضاً: استقرار الملائكة إنما هو من فوق، فكادت تنشق من كثرة الثِقل، كما في الحديث: «أطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئطَّ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد».
وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى. وقيل: {من فوقهن}: من فوق الأرض، فالكناية راجعة إلى الأرض، من قوله: {له ما في السماوات وما في الأرض} لأنه بمعنى الأرضين.
{والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربهم} خضوعاً؛ لِمَا يرون من عظمته، {ويستغفرون لمَن في الأرض} أي: للمؤمنين منهم، خوفاً عليهم من سطواته، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى. ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض، الذين تبرؤوا من تلك الكلمات، {ألا إِنَّ اللهَ هو الغفورُ الرحيمُ} حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
الإشارة: حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى: {يكاد السماوات يَتَفَطَّرن} أي: يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى: {ويستغفرون لمَن في الأرض}، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.


قلت: {وكذلك}: الكاف في محل النصب على المصدر، و{قرآناً}: مفعول {أوحينا}.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء}؛ شركاء، يُوالونهم بالعبادة والمحبة {اللهُ حفيظ عليهم}: رقيب على أحوالهم وأعمالهم، فيجازيهم بها، {وما أنت عليهم بوكيلٍ}؛ بموكّل عليهم، تجبرهم على الإيمان، ثم نسخ بالجهاد. أو: ما أنت بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
{وكذلك أوحينا إِليك قرآناً عربيّاً} أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً، لا لبس فيه عليك ولا على قومك، {لِتُنذِر أُمَّ الْقُرَى} أي: أهلها، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها، أو: لأنها أشرف البقع، {و} تُنذر {مَنْ حولها} من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري: وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة؛ لأنها سُرَّةُ الأرضِ. اهـ.
{وتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ}؛ يوم القيامة؛ لأنه تجمع فيه الخلائق، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من {تُنذر} الأول للتهويل، أي: لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة، {لا ريبَ فيه}؛ لا شك في وقوع ذلك اليوم، {فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} أي: بعد جمعهم في الموقف يفترقون، فريق يُصرف إلى الجنة، وفريق إلى السعير بعد الحساب، والتقدير: فريق منهم في الجنة. والجملة: حال، أي: وتنذر يوم الجمع متفرقين.
{ولو شاء اللهُ لجعلهم} في الدنيا {أمة واحدة} إما مهتدين كلّهم، أو ضالين، {ولكن يُدْخِلُ مَن يشاء في رحمته} أي: ويُدخل مَن يشاء في عذابه، يدلّ عليه ما بعده، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب: اختلاف الداخلين فيهما، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة، بل جعلهم فريقين، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له. {والظالمون ما لهم من وَليٍّ ولا نصير}؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
قال أبو السعود: والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله: {أمة واحدة} الاتحاد في الكفر، كما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...} [البقرة: 213] الآية، على أحد الوجهين، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع، وما فيه من ألوان الأهوال، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته إن شاء ذلك، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم، فيتأثر بعضهم بالإنذار؛ فيعرفون الحق؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة، ويُدخلهم في رحمته، ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادى في غيهم، وهم الظالمون، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه، ويصيرون في الآخرة إلى السعير، من غير وليٍّ يلي أمرهم، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب. اهـ.
{أَم اتخذوا من دونه أولياءَ}، هذه جملة مقررة لِما قبلها، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير. و {أم}: منقطعة، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه، أي: ليس المتخَذون أولياء، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه. وقوله: {فالله هو الوليُّ}: جواب عن شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام: إن إرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ، لا وليّ سواه. {وهو يُحيي الموتى} أي: ومن شأنه إحياء الأموات، {وهو على كل شيءٍ قديرٌ} فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً، فليخصُّوه بالاتخاذ، دون مَن لا يقدر على شيء. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال القشيري: كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. اهـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله: لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري: كما أنهم اليومَ فريقان؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. {ولو شاء الله} أي: أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. اهـ.
وقوله تعالى: {فاللهُ هو الوليُّ} تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم: اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.


يقول الحق جلّ جلاله: {وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله}، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بدليل قوله: {ذلكم اللهُ ربي} أي: ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين، من أمور الدين، واختلفتم أنتم وهم، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله، ومُفوض إليه، وهو إثابةُ المحقّين فيه، ومعاقبة المبطلين. والمختار العموم، أي: وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع، فحُكم ذلك إلى الله، وقد قال في آية أخرى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله، ثم إلى سنّة رسول الله، ثم إلى الإجماع، ثم القياس، فهذه هي قواعد الشريعة، وعليها بُنيت الأحكام، فمَن خرج عنها فهو مبطل، ففي كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس.
وقيل: ما اختلفتم فيه من العلوم، التي لا تتصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: الله أعلم.
ثم قال: {ذلكم اللهُ ربي} أي: ذلكم العظيم الشأن؛ الله مالكي ومدبر أمري، {عليه توكلتُ} في جميع أموري، لا على غيره، {وإِليه أُنيبُ}؛ أرجع في كل ما يعرض لي، لا إلى أحد سواه. وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً، والإنابة متعددة، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها، أُوثر في الأول صيغة الماضي، والثاني صيغة المضارع.
{فاطرُ السماواتِ والأرضِ}؛ خالقهما ومظهرهما، وهو خبر ثان لذلكم، أو عن مضمر، {جعل لكم من أنفسكم}؛ من جنسكم {أزواجاً}؛ نساء {ومن الأنعام أزواجاً} أي: وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً، أو: خلق لكم من الأنعام أصنافاً؛ ذكوراً وإناثاً، {يذرؤكم فيه} أي: يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع، من: الذرء، وهو البث، فجعل الناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، واختير لفظ {فيه} على به؛ لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير. والضمير في {يذرؤكم} يرجع إلى المخاطَبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم.
وقال الهروي: {يذرؤكم فيه} أي: يكثّركم بالتزويج، كأنه قال: يذرؤكم به. اهـ. وقال ابن عطية: لفظة ذرأ تزيد على لفظة {خلق} معنى آخر، ليس في خلق، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان، وقوله: {فيه} الضمير عائد على الجعل. وقال القتبي: الضمير للتزويج. اهـ.
{ليس كمثله شيءٌ} أي: ليس مثله شيء في شأن من الشؤون، التي من جملتها هذا التدبير البديع. قيل: إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة.
قال ابن عطية: الكاف مؤكدة للتشبيه، فنفي التشبيه أوكد ما يكون، وذلك أنك تقول: زيد كعمرو، وزيد مثل عمر، فإذا أردت المبالغة التامة قلت: زيد كمثل عمرو، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة. اهـ.
قال النسفي: وقيل: المثل زائد، والتقدير: ليس كهو شيء، كقوله تعالى: {فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ} [البقرة: 137]، وهذا لأن المراد نفي المثليّة، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل. اهـ. والجواب ما تقدّم لابن عطية.
وقيل: الآية جرت على طريق الكناية، كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، أي: أنت لا تبخل؛ لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى.
ثم قال تعالى: {وهو السميعُ البصيرُ}؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان. وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له، كما لا مثل له، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا.
{له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ} مفاتيح خزائنها، {يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ} أي: يوسعه {ويَقْدرُ} أي: يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة. {إِنه بكل شيءٍ عليمٌ} لا يخفى عليه شيء، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة.
قال ابن عرفة: تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال، فالقدرة في قوله: {فاطر السماوات والأرض} والوحدانية في قوله: {ليس كمثله شيء} والإرادة في قوله: {يبسط الرزق لمَن يشاء}؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة. والعلم في قوله: {إنه بكل شيء عليم}، والكلام في قوله: {شرع لكم من الدين}؛ لأن المراد به الحكم الشرعي، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين، وخطابه كلامه. اهـ. زاد في الحاشية الفاسية: يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة، مع أنه قال: {يُحيي الموتى} والإحياء إنما يكون من الحي. اهـ.
الإشارة: قوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء} قال القشيري: ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره. ويقال: إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم، أو بالشقاوة جرى اسمُكم، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله، واشتغلوا في الوقت بأمر الله، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم. اهـ.
وقوله: {فاطرُ السماوات والأرض} أي: شققهما من أسرار الغيب، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات. جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل، بعضكم من بعض، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء.
وقال بعض العارفين: ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. فقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} أي: ليس معه شيء حتى يشبهه.
وقال الورتجبي عن الواسطي: أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة، والعبارة منقوضة؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق. وقال الشبلي: كل ما ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم، فهو مصروف إليكم، ومردود عليكم، محدث مصنوع مثلكم؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة، أو يدركها وهم، أو يحيط بها علم، كلا، كيف يحيط به علم، وقد اتفق فيه الأضداد، بقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟ كلاّ، قصرت عنه العبارة، وخرست الألسن لقوله: {ليس كمثله شيء}. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6